رحلتي مع الشعر، للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف

كنت في الحادية عشرة من عمري عندما قامت ثورة يوليو، وبعد شهور من نجاحها كان قائدها في ذلك الوقت محمد نجيب يزور بعض الأقاليم، وقال أبي أمامي ليسمعني: إنه قرأ في إحدى الجرائد أن صبيًا في الحادية عشرة ألقى أمام محمد نجيب قصيدة حياه بها، وأبدى والدي-رحمه الله- إعجابًا شديدًا بهذا الصبي الذي في مثل سني، وكانت هذه طريقته عندما يريد أن يوجهني إلى شيء أو يحفزني عليه. وقد قيل: أيامها إنّ محمد نجيب سوف يزور إحدى القرى التابعة لشبين الكوم بالمنوفية، وسوف يذهب إليها عن طريق الباجور وهو الطريق الذي يمرّ على قريتنا، وقيل: إنه سوف يتوقف قليلا عند قريتنا. فقفز إلى ذهني ذلك الصبي الذي استأثر بإعجاب والدي، وفكرت أن أصنع صنيعه، وأنال شيئًا من إعجاب أبي وأُقر عينَه بي.

https://www.hamassa.com/2020/03/10/%d8%b1%d8%ad%d9%84%d8%aa%d9%8a-%d9%85%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d8%a1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%84-%d8%a3-%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%ad%d9%85%d8%a7/

وأذكر أنني عكفت يومًا أو يومين على كتابة (قصيدة) أحيي بها قائد الثورة عندما يتوقف عند قريتنا، ولم يكن في ذهني من مثال للشعر الذي أريد أن أكتبه إلا الأناشيد التي كنا نحفظها في المدرسة الإلزامية، ولم يكن في مخزوني اللغوي إلا القرآن الكريم الذي كنت أتممت حفظه قبل ذلك بعام، ولذلك جاء ما كتبته آنذاك بعض نصائح لقائد الثورة، وبعض سبابٍ للعهد الملكي في كلام أظهر ما فيه السجع وبعض العبارات المنقولة بنصها من القرآن الكريم. ثم سارعت فأعطيت ما كتبت لأبي، وحظيت منه بابتسامة صامتة لم أستطع أن أميز وقتها أهي ابتسامة إعجاب أو أنها يمازجها شيء من الإشفاق؟ من هذا التاريخ البعيد بدأ خيالي الصغير يُشغل بهذا الشيء الذي يسمّى الشعر، وبدأت أكثر من الهذرفة والمحاولة والتقليد. وقد أكسبتني هذه المحاولات المبكرة التعلق بالشعر، وحبه، والقدرة على الحفظ والاستجابة للنغم الكلامي. ألحقني أبي – الذي كان قد نذرني للأزهر الشريف – بعد ذلك بمعهد القاهرة الديني، ووجدتني مع زملائي أدرس الفقه والنحو والتوحيد والحساب والجغرافيا والسيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، ولم يكن للشعر نصيب إلا حصة المحفوظات التي لم تكن تحظى لدى الأساتذة والطلاب معًا بشيء من الاهتمام، وكان يكفي الطالب أن يحفظ بعض الأبيات يلقيها أمام لجنة الامتحان الشفوي آخر العام. وكان هذا الامتحان نفسه لا يظفر بالاهتمام الواجب؛ إذ كان التركيز فيه منصبًّا – إن وجد – على حفظ القرآن الكريم، فقرّ في نفسي من أول عام لي في الأزهر أن سبيل الشعر إمّا كنتُ سالكَه عليَّ أن أسلكه وحدي.
بعد أن أديت امتحان السنة الأولى الابتدائية بمعهد القاهرة الديني زرت في طريق عودتي إلى القرية ابن عمتي الأستاذ عبد الباري خطاب – عليه رحمة الله – وكان مدرسًا للغة العربية بوزارة التربية والتعليم، وهو أحد خريجي كلية اللغة العربية بالأزهر، وكان خطيبًا شاعرًا، فقدم لي كتابين قيمين نصحني أن أقرأهما في الإجازة الصيفية، أولهما كتاب (المنتخب من أدب العرب) وهو من خمسة أجزاء، ألفه طه حسين وأربعة معه، والآخر كتاب (التوجيه الأدبي) لمؤلفي المنتخب أنفسهم. وجدت في كتاب المنتخب اختيارًا لشعراء العربية بدءًا من امرئ القيس في العصر الجاهلي وما بعده في العصور الأدبية المتوالية حتى العصر الحديث. فأقبلت على القصائد المختارة أقرأ، وأحفظ منها ما أحفظ، وأباهي أقراني وزملائي بما أحفظه، وما أحصله من مفردات جديدة لا عهد لهم بها. ومن خلال كتاب (التوجيه الأدبي) حصلت شيئًا من تاريخ الأدب ونقده، وطرفًا من الأجناس الأدبية الأخرى، وتعريفًا بها بدءًا من المرحلة اليونانية، وانتهاء بالعصر الأوروبي الحديث. وكان هذا بابا لمجال واسع عليّ في ذلك الوقت المبكر. وكلما حصلت شيئًا في هذا الميدان أدركت أن الشوط طويل وأن المدى واسع وأنني تائه غريب، وأحسست أيضًا بضرب من التفرد بين زملائي مما جعلني أشعر بالاغتراب؛ إذْ لم يكن أحد ممن أعرف في هذه المرحلة يهتم بمثل ما أهتم به، ويحاول مع الشعر شيئًا مما أحاول.

في الرابعة عشرة من العمر، وكنت ما أزال في المرحلة الابتدائية، وقعت في (الحب) وبطبيعة الحال كان حب المراهقة، وكانت إحدى جارات بيتنا في القرية، وكانت تكبرني بعام، وكانت أكثر نضجًا مني. وكانت كلمة (الحب) نفسها في قريتي مما يعاب في هذا الزمن أي في الخمسينيات من القرن الماضي. وكم أحسّ بالدهشة والحسرة على أبناء جيلي عندما أذهب إلى قريتي الآن ويدور حديث مألوف غير منكور عن أن فلانًا (يحب) فلانة، أو أن فلانة (تحب) فلانًا. ويفيض بقلبي الألم على ما حدث لي في ذلك الزمن الغابر الذي كان المرء يشعر فيه بخزي شديد إذا أذيع سرّ حبه. كنت أحس في ذلك الوقت أني أحمل بين جنبي سرّا خطيرًا من أسرار الكون، وبقدر ما كنت أشعر بالسعادة الغامرة أن اختارتني المقادير لهذا الحب كنت أحسّ بالرثاء لنفسي مما أعانيه من كتمان، وبدوت بيني وبين نفسي رومانسيًّا حالمًا، وكنت أعزي النفس بأن هذا من قدر (الشعراء)، ووجدت في محاولاتي الشعرية متنفَّسًا أفضي فيها بذات نفسي وأبوح بما ينوء به القلب المكلوم. ومَثّل لي الحب في هذه المرحلة رافدًا كنت أراه ضروريًا من روافد الشعر ودافعًا من دوافعه، وكم رأيت نفسي في بعض الشعراء العذريين، وكنت لا أستطيع أن أكفكف نفسي عندما كانت عيناي تغرق بالدمع، ويشرق به حلقي لقراءة قصيدة من قصائد مجنون ليلى أو جميل بثينة، ولعل فتنتي بمسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي في هذه المرحلة كانت بسبب أني خيّلت لي نفسي أني أنا (المجنون). ولي مع مسرحية أحمد شوقي (مجنون ليلى) قصة فيها من الطرافة طرف، ذلك أني كنت في الرابعة الابتدائية، وكنت جالسًا في الفصل أقرأ هذه المسرحية وقد وضعت يدي بها أسفل درج المقعد الذي أجلس عليه، ودخل مدرس حصة المحفوظات الذي كان يدخل الفصل علينا لأول مرة بعد مرور أكثر من نصف العام، إذ كان ذلك في أواخر فبراير سنة 1958م ولم أشعر به لأني كنت مندمجًا مع المشهد الذي يبكي فيه مجنون ليلى على قبرها اندماجًا كاملا، وطلب المدرس من الطلاب أن يخرجوا كراسات المحفوظات ليملي عليهم قصيدة يكتبونها، ولم أستجب للطلب لأني لست معه، فأتى إليّ متمهلا، وأنا لا أشعر به، ووجد في يدي المسرحية فأخذها مني – وكنت استعرتها من أحد الطلاب الذين يسبقونني – ولما لم تكن معي كراسة للمحفوظات وبَّخني توبيخًا شديدًا ونقلني إلى مقعد خال أمام الطلاب عن يمين المدرس، وحرمني من متابعة القراءة بإبقاء المسرحية معه، وكان قد هم بقطعها قسمين، ولم يكمل، وألقى القصيدة على الطلاب بيتًا بيتًا وكانت عن الوحدة بين مصر وسوريا التي كانت قد تمت منذ أقل من شهر، ولما فرغ سأل: من يستطيع قراءة القصيدة؟ وكانت من حوالي أربعة وعشرين بيتًا، ومطلعها مازلت أذكره وهو:

سلامٌ شعب سوريّا ومصرا * لقد حققتَ للتاريخ نصرا ورفع عدد قليل من الطلاب أيديهم وكنت أحد الذين رفعوا أيديهم مستجيبًا لطلب قراءة القصيدة، وحانت من المدرس التفاتة إليّ فرآني أرفع يدي، فقرَّعني ووبَّخني توبيخًا شديدًا. وقلت له في أدب شديد: لماذا توبخني؟ حضرتك طلبت من أحد الطلاب أن يقرأ القصيدة وأنا واحد من هؤلاء الطلاب. فقال لي: أنت لم تكتبها! فقلت له: سيادتك طلبت قراءتها وأنا مستعد لذلك. فقال مندهشًا: اقرأ. وأسمعته القصيدة كاملة من الذاكرة، وكنت سلّيت نفسي بحفظها منه عند إملائها على الطلاب. وبعد أن فرغت من قراءتها، اعتذر لي بشدة عما بدر منه من توبيخي، وامتدح ذكائي أمام زملائي، وكان مما قاله لي: “والله يا بني لم أكن أعرف أنك عبقري”، فأحسست أنه ردّ لي اعتباري. وكان الفضل في ذلك لقوة الحافظة التي مرنت على حفظ الشعر، وتمرست به.

في المرحلة الثانوية عرفت دار الكتب بفضل بعض أساتذتي في المعهد الديني، فبدا لي أن الباب الذي ظننته من قبل واسعًا ما هو إلا كوة صغيرة جدًّا على عالم الشعر، ووجدتني أمام تيارات جارفة، وأرفف عالية تحوي كنوزًا من المعرفة تحتاج إلى أعمار مضاعفة حتى ينال المرء منها قسطًا محدودًا. ولكن الاختيار كان واضحًا لي، إذ توجهت إلى كتب الأدب في هذا الوقت، وكان هذا الجانب نفسه واسعًا جدًّا، فكنت أقرأ ما يتاح لي منه على غير اختيار. ولم أكتف في هذه المرحلة بما يتيحه الوقت المحدود من قراءة في دار الكتب، بل كنت أقتطع مما يعطيني أبي لإقامة الحياة في القاهرة قروشًا قليلة أشتري بها بعض الكتب المستعملة التي كان باعتها يعرضونها أمام مسجد الجامع الأزهر، حيث كنا نذهب إليه قبل صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء للمذاكرة في معظم أيام الأسبوع. وكلما قرأت شيئًا أدركت أن بيني وبين ما أريد من الشعر بونًا بعيدًا تتقطع دونه الأنفاس.
وفي المرحلة الثانوية تكشف لي كثير من الأمور. أدركت وزن الشعر دراسة بعد أن عرفت بعضه اجتهادًا، وبدأت أكتب كلامًا موزونًا مقفى أعرضه أحيانًا على زملائي فيستحسنه بعضهم، ولا يراه بعضهم حسنًا، وليس بين زملائي وقتها من يقول الشعر أو يهتم به أو يحاوله. في هذه المرحلة كانت نفسي تتطلع إلى من أجلس إليه يستمع إلى ما أكتب من شعر، ويبدي لي فيه رأيًا. وفي شهور الصيف في قريتي لم أجد أحدًا يمكن أن يكون له هذا الاهتمام، ولذلك كنت أسير على قدميَّ مسافات طويلة لأجلس إلى صديقي عبد الفتاح علام – عليه رحمة الله – الذي كان يسبقني في الدراسة بسنوات، ويكبرني في السن بأكثر من سنوات سبقه الدراسي، وكان له اهتمام بالشعر، وكان يحاول شيئًا منه، ولكن محاولاته لم تكن على مستوى محاولاتي، ولذلك أعجب بي، وأفسح لي مجال مصادقته برغم فارق السنّ، وكنت أذهب إليه في قريته المجاورة، وأقضي معه وقتًا طويلا، وأحيانًا أعود إلى قريتي وحدي في ظلام الليل الدامس، وفي الطرقات المخوفة المحفوفة بعدد من المخاطر، وأذكر أنه زادت علاقتي به وثوقًا عندما كتبت إليه مرة قصيدة أهنئه فيها بالعيد وأشكو له لواعج الشوق من حب من أحبها في هذه الفترة، وفي ختام هذه القصيدة أقول:
أشكو إليك وما أخاف ملامةً * فمِن اسمها قد رُكِّبت أتراحي
فالزاي زادت في هواي تضرما * والياء قد جلّت عن الإفصاح
والنون نلت من الصبابة ما ذوى * بنضارتي فَدُرجت في الأشباح
والباء بعد وابتلاء أحبة * فاحفظه سرًا بين صدرك صاح
هذي الشكاة زفرتها ومدامعي * تهمي كصوب الهاتن السحّاحِ
فأجابني العيد السعيد بقوله: * أبدلت منها عابد الفتاحِ
فامرحْ وغنّ وكن بيوميَ نَاعمًا * واملأ فضاء الأفْق بالتصداحِ
كان الحب في هذه المرحلة خيالاً أعيشه وحدي، لا يدري الطرف الآخر عنه شيئًا على الإطلاق، وأجد هذا الحب وقودًا يذكى نار الشعر ويلهب أوراها. وفي هذه الفترة كان هناك شاعر يحضر كل عام ينشد قصيدة في حفل بمناسبة المولد النبوي يقيمه أقارب لي، كان اسمه عبد المنعم عبد الله، وهو والد المطرب الذي توفي شابًا واسمه عمر فتحي، كان هذا الشاعر صديقًا لأحد أقاربي هؤلاء، وكنت أحسّ أن فقرة إلقاء القصيدة في الحفل تخصني وحدي، ومن المؤسف أن هذا الشاعر توفي شابًّا أيضًا، فرأيت أن أخلفه في فقرة الشعر، فكنت أستعد للمناسبة بإحدى القصائد التي أسعد بإلقائها في هذا الحفل السنوي، وكنت أغرب في اختيار الألفاظ، وكأني منفلت من العصر الجاهلي، ومثال ذلك ما أقوله في إحدى هذه القصائد عن الهجرة النبوية:
لبستْ قشيب الذكر ذكرى تعبقُ * بشذا البطولة كلّ عام تشرقُ
ذكرى بصاحبها تهيم تلهّفا * مضغٌ تلَظَّي في الضلوع وتحرقُ
وترنّ إرنان الرَّقُوب قلوبنا * شوقًا إليها، والكرامُ تشَوَّق
ولكن ملاحظة والدي – رحمه الله – على هذه القصيدة جعلتني في العام التالي أجنح إلى شيء من السهولة واليسر وأبتعد عن الألفاظ المقعقعة إذ قال لي: إنك تكتب لنفسك لأن أحدًا من الحاضرين لم يفهم عنك شيئًا.
حاولت بالحب أن أليّن لغتي، فكتبت لذكاء – وهي الفتاة التي تزوجتها فيما بعد – عددًا من القصائد، وعندما أقول كتبت لها أقصد أنني كتبت عنها؛ لأنها لم تر شيئًا مما كتبته في هذه المرحلة حتى الآن، كتبت أهنئها بالنجاح:
إذا رفّ النسيم مع الصباح * وداعب غض أوراق الأقاحِ
وسال النور من شمس ضحوك * ليوم باسمٍ كالحب ضاحِ
وغردت البلابل لحن فوز * جميل في الغدوّ وفي الرواحِ
فلا تنسَيْ فؤادا ذاب وجدًا * يزف إليك تهنئة النجاح
نجاحك يا ذكاء روى صداه * وأطفأ فيه آلام الجراح
هنيئًا يا ذكاء فكل جدّ * حريّ أن يكلل بالنجاحِ
وكتبت فيها أيضًا :
طلعت ذكاء بحسنها تتألق * وبدتْ فخلت ذُكاء أخرى تشرق
تزجي برقّتها القلوب لساحها * سِيّان من يهوَى ومن لا يعشق
والشمس إن طلعت ترى عَبّادها * ولّى إليها الوجه حيث تحلق
طلعت ذكاء فهبّ قلبي كي يرى * ذوب الجمال بوجهها يتدفّق
فرأى الضلوع تحول دون مراده * فمضى طوال الليل فيها يخفق

كنت أحتفظ بهذا الشعر، وغيره من شعر هذه المرحلة في أوراقي الخاصة، ولكنه ضاع جميعه مع أوراق أخرى غالية على القلب بعضها يتضمن خطابات والدي وبها شيء من شعره عندما انتقلنا إلى بيتنا الذي نقيم به الآن. وفي المرحلة الثانوية اقتربت من عدد من أساتذتي الذين كانت لهم شهرة في المجتمع الثقافي والاجتماعي. وأول هؤلاء المحقق العلامة السيد أحمد صقر، وأحمد الشرباصي، وفتحي عبد المنعم، وعبد الفتاح سالم، وعبد المنعم النمر. وكان للسيد صقر أسلوب مختلف عن زملائه في التدريس وكان يدرس لنا البلاغة؛ إذ كان يعتمد على إقرائنا نصوصًا من أمهات كتب الأدب ويطلب إلينا أن نبين فهمنا الأدبي لها، وكان لا يلتفت إلى الكتاب المقرر، وإذا التفت إليه فلكي يبين ما به من أخطاء.
وكان مما لفت نظر الأستاذ السيد صقر إلىّ أنه طلب مني أن اقرأ أبياتًا في كتاب ( يتيمة الدهر) للثعالبي، وهي أبيات لسيف الدولة الحمداني يقول فيها:
أقبِّلُه على جزعِ * كشرب الطائر الفزعِ
رأى ماءً فأطمعه * وخافَ عواقِب الطمَعِ
وبعد قراءتها طلب إليّ التعليق عليها، ولم يكد يسمع مني الجملة الأولى التي قلت فيها: “هذه أبيات راقصة” حتى قال: “كفى، عرفنا من تكون”، وقربني منه بعد هذه العبارة القصيرة، وقال لي بعد الفصل: أنت تكتب الشعر؟ فقلت له: نعم. كيف عرفت؟ قال: التعليق الذي قلته على أبيات سيف الدولة لا يقوله إلا من يحب الشعر ويحاول كتابته، وسألني أن أسمعه شيئًا من شعري، فأنشدته قصيدة مطلعها:
جاءت إلىّ وكان الشوق حاديها * والحب أنشودة كانت تغنيها
فأخذني معه وجعلني أنشدها للطلاب في الفصول الأخرى. رحم الله هذا الأستاذ الشجاع الذي كان يشجع تلاميذه ويأخذ بأيديهم. وكان يطلب إلى بعض الطلاب – وكنت واحدًا ممن طلب إليهم ذلك – أن يذهب إلى قسم المخطوطات بدار الكتب ليحقق إحدى القصائد المقررة ويقارن بين الأصل الموجود في الديوان المخطوط والنص الموجود في الكتاب، ويكشف مدى التجاوز والتغيير، ويعرفنا النتائج التي تترتب على هذا التصحيف والتحريف. وقد أفدت من تدريس السيد صقر ما لم أفده من الكتاب المقرر الذي كان بعض الطلاب يحتجون به على السيد صقر ويتنادَوْن من آخر الفصل: “الكتاب!” فيرد عليهم قائلاً: “يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم”.

كان أبي معجبًا بأحمد الشرباصي، يتابعه منذ نشأته، وكان يقول لي: إنه كان يقرأ له رسائل في مجلة (الرسالة) التي كان يرأس تحريرها أحمد حسين الزيات وهو بعد طالب في المرحلة الابتدائية، ولذلك حين اقتربت منه وقربني إليه وجدت في ذلك شيئًا يُرْضي عني والدي، وأذكر أنني كتبت للشرباصي رسالة طويلة ضمنتها قصيدة في مدح صفاته، وردّ عليّ برسالة شاكرة مقتضبة يقول فيها: “تلميذي النجيب … قرأت رسالتك التي بعثت بها إليّ وقصيدتك التي تفضلت فحييتني بها، وأسأل الله أن يجعلني كما تظن، وآمل أن أراك في مطلع العام الدراسي وأنت ممتلئ أملاً وثقة” ومهرها بتوقيعه. وعندما أطلعت أبي على هذه الرسالة مباهيًا قال لي: إنه يعلمك كيف تكون الكتابة! ولكنه لم يستطع أن يخفي بعض السرور الذي تسلل إلى أساريره من نفسه.

كان السيد صقر جريئًا على النظام السائد في المعهد الديني كما كان جريئًا على المقرر، فكان يُدخِل معه في حصة البلاغة بعض زملائه، فمرة يدخل معه أحمد الشرباصي، ومرة فتحي عبد المنعم، ومرة عبد المنعم النمر، ويدور حوار يشارك فيه الطلاب، ويجني بعضهم من هذا الحوار الحي فائدة كبيرة، وكان السيد صقر يصطحب معه بعض تلاميذه ذوي المواهب من الفصول الأخرى فيلقي على زملائه قصيدة أو يقرأ بحثًا من الأبحاث التي كان يكلف طلابه بها. وكان قد اصطفاني أنا وحامد طاهر لنسخ بعض المخطوطات، وأبلينا في ذلك بلاء حسنا، وقد ترددنا كثيرًا على بيته وسهرت معه ليالي في مكتبه، وكانت أول مرة أرى فيها بيتًا غطيت جدرانه من الأرض للسقف بالكتب، وأنَّى تنقَّل الزائرُ وجد الكتب على هذا النحو في كل مكان بالبيت.
عن طريق السيد صقر عرفت حامد طاهر وأحمد درويش رفيقي رحلة الشعر فيما بعد. أما حامد طاهر فكان السيد صقر قد دعاه ودعاني معه لتناول الغداء في أحد مطاعم الكباب الشهيرة. وقال لنا: ليقدم كل منكم نفسه للآخر على الطريقة الشامية. كان حامد في فصل مختلف عن فصلي وكذلك كان أحمد لاختلاف مذاهبنا الفقهية. وكنت رأيت حامد من قبل وأنكرت منه أنه لا يلبس الزي الأزهري، وكان فتى نحيلاً أضفى النحول عليه طولا، وكنت أراه مع المترددين على جمعية الشبان المسلمين في مساء الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، وقد غفر إنكاري عليه عدم ارتداء الزي الأزهري أنْ كنا ليلة نحضر أمسية شعرية في جمعية الشبان المسلمين وسمعت زميله المرافق له يقول له: عما قريب نسمعك إن شاء الله وأنت تلقي شعرك في هذا المكان. إذن هذا الفتى النحيل الذي لا يرتدي الزي الأزهري شاعر. ووددت لو تعارفنا؛ ولذلك سررت لدعوة السيد صقر له، وقلت في نفسي جاءت الفرصة التي كنت أتحينها.

في هذا اليوم حدث شيء طريف شبيه بشيء حدث من قبل. ففي طريقنا سيرًا على الأقدام من المعهد الديني إلى العتبة التقينا بشيخ معمم يلبس تحت الزي الأزهري القميص الأفرنجي والبنطلون، وكانت أزرار كمي القميص من المعدن الأصفر، ويبدو أنها من الذهب، عرفت فيما بعد أنه الأستاذ محمد خليفة الذي صار فيما بعد الدكتور محمد خليفة. وقف معه السيد صقر وتكلما بعض الدقائق وأنا وحامد بجوارهما نسمع ما يقولان ولا نشارك بالطبع فيه. وقال محمد خليفة للسيد صقر: هل سمعت القصيدة التي قالها حسن جاد – أحد شعراء الأزهر المعروفين – في هجاء الشيخ عبد الغني عمارة الذي كان قد عين عميدًا لكلية اللغة العربية قبل ذلك بأيام. فسأله السيد صقر أن يسمعه إياها، فأخرج محمد خليفة ورقة قرأ منها القصيدة كان فيها من مطلعها:

اعْوِ يا ذئْبُ وانهقي يا حماره * قد تولّى العمادةَ ابْنُ عمارة
أصبحت دار يعرب غرزة الفصحى وأضحت لأهلها خمارة
لو تراه يدس في الفم شيئًا * لا أسميه أو يلفُّ سجارة

إلى أن أنهى القصيدة، ولم تكن طويلة، إذ كانت لا تزيد على خمسة عشر بيتًا، وضحكا معًا طويلاً، ومضى الشيخ محمد خليفة متجهًا إلى المعهد، ومضينا متجهين إلى مطعم الكباب في أول شارع الجيش من العتبة. أكلنا الكباب مع أستاذنا السيد صقر في مكان محترم ولعلها كانت أول مرة، وطلب لنا شيئًا جديدًا علينا يسمى (عيش السرايا). وأثناء أكل الحلو قال السيد صقر: ليتنا كتبنا القصيدة التي ألقاها علينا محمد خليفة! فقلت له على الفور: لا بأس، يمكن أن نكتبها الآن. فدُهِش الرجل، وأخرجت ورقة وقلمًا وكتبت له القصيدة كما ألقاها الشيخ محمد خليفة لم أخرم منها بيتًا. فسُرَّ السيد صقر بكتابة القصيدة، وبحفظي لها من سماعها أول مرة، وكان بعد ذلك يسميني ذا الذاكرة الذهبية.

مشينا معَ السيد صقر حتى أوصلناه إلى بيته، وشكرناه، ومضينا معًا حامد وأنا، وقد تعلقت به تعلقًا شديدًا، وظللنا معًا نمشي في شوارع القاهرة ونتكلم في أمور الشعر وأسمع منه شعره، وأُسمعه، ولفت نظري أن شعره مختلف، فعلى حين كنت أجنح إلى الألفاظ المعجمية الجزلة، كان لفظه سهلاً عذبًا لطيفًا مأنوسًا، وعلى حين كنت أكتب عن هجرة ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يسمعني شعرًا عن ثورة يوليو وأم كلثوم وبعض المشاعر عن الأعمى والخادم، وهجاء بعض المشايخ ومدح بعضهم. وقد أثنى يومها على قصيدة لي كنت قد كتبتها بعنوان (الحب الدفين). قلت لنفسي: صار لي صديق شاعر فعضضت على صداقته بالنواجذ. وسرعان ما انضم إلينا أحمد درويش وكان قد أعجبني منه من قبل أنه كان يلقي في فصلنا بحثًا عن ابن الرومي، وأثناء قراءته للبحث انتزع منه الأوراق وطلب إليه أن يستمر، فلم يتلعثم أحمد واستمر في الكلام كأنه يقرأ من كتاب مفتوح. ولكن بعد ذلك بأيام أعلن السيد صقر أن إدارة المعهد وافقته على عمل مجلة طلابية تنشر فيها بحوث الطلاب – وكنت بتوجيه منه أعددت بحثًا عن البحتري وأعد حامد بحثًا عن المتنبي وأعد أحمد بحثًا عن ابن الرومي – والتف الطلاب يسألون الأستاذ عن كيفية النشر وشروطه، ووقفت أفكر في سؤاله عن الشعر، وبينما كنت أدير السؤال في نفسي وأحاول اختيار العبارة التي أصوغه بها قفز أحمد درويش وكان صغير الحجم ولا يرتدي أيضًا الزي الأزهري وقال للأستاذ السيد صقر: هل سيكون للشعر نصيب في هذه المجلة؟ وأعجبني سؤاله عن الشعر واقتحامه، فأمسكت بيده وأخذته بعيدًا عن التحلق حول الأستاذ وسألته: لماذا تسأل عن الشعر؟ فأجابني باعتداد كبير إنه شاعر قد اختطّ لنفسه الدفاع عن القضايا الإسلامية. ومرة أخرى أعجبني منه أنه يتكلم بثقة عن طريق واضح، وخط مرسوم.
التقينا إذن في حمى أستاذنا السيد صقر وفرحنا بهذه العلاقة فرحًا شديدًا، أو على الأقل فرحت أنا بهذه العلاقة فرحًا شديدًا، وقد تعلمت فيما بعد أنه في مجال العاطفة لا أتكلم إلا عن نفسي.
بدأت علاقة هذا الثلاثي في أوائل السنة الثالثة الثانوية، وكان أمامنا للحصول على الثانوية الأزهرية سنتان بعد الثالثة، وكنا إذا ذهبنا إلى قرانا في الصيف بقى حامد في القاهرة حيث يقيم أهله، ويتردد على دار الكتب، ويقيم علاقات متنوعة، وكنا نتراسل أسبوعيًا فيكتب لي حامد عما يقرأ في دار الكتب وغيرها، ويكتب لي آخر ما كتب من الشعر، وفي بعض الأحيان يكتب شيئًا من الشعر يخصني، ولا أنسى قصيدة كتبها لي يهنئني فيها بالعيد يقول فيها:

إليك أسوق تحناني * ومنك أصوغ ألحاني
وقد يتجرأ الإنسان * لكن أنت إنساني
عرفتك فاهتدى قلقي * ورقّ لديك وجداني
وعبّ النورَ من إخلاصك الفطريِّ حرماني
فياكم عشت في الدنيا * غريبًا بين خلاني
ألاقي ما يلاقي الطيرُ خلف عَتِيّ قضبانِ

وأرد عليه بقصيدة مماثلة أبادله فيها المودة بمثلها، وأهنئه أيضًا بالعيد، آخرها:

فعيدي ليس عيد الناس لكنْ يوم تلقاني

ويكتب إليّ مرة بعد أداء الامتحان في السنة التي رَدّت فيها السعودية كسوة الكعبة المشرفة، وأمر جمال عبد الناصر أن تعلق كسوة الكعبة في مسجد الجامع الأزهر فأصبح الأزهر مزارًا لفئات مختلفة من الرجال والنساء والشباب والصبيان والفتيات، واختلط الحابل بالنابل في الأزهر الشريف، واشتد الزحام، وضاعت حرمة المسجد، كتب حامد لي يقول:

أتذكر يا محمد يوم كنا * نؤلف من صفاء الحب لَحْنا
غداة نعيش في بؤس امتحانٍ * ولكن السعادة في يدينا

وأرد عليه قائلاً:

أجلْ ذكراك لا تُنْسى * فلن أنساك لن أنسى
أأنسى حلو أيام * همسن بعمرنا همسَا
وطافتْ بي صباباتٌ * عِذابٌ كُنّ لي أنسا
وطفْتَ بها لتسقيني * وتملأ بالرضا النفسا

إلى أن أنهيها قائلاً:

فليت الإمتحان بَقِي * وليت البيتَ لا يُكسى

في الشهور الأولى من السنة الرابعة الثانوية دعانا السيد أحمد صقر نحن الثلاثة، وطلب إلينا أن يعد كل واحد منا قصيدة في مدح الأستاذ العقاد لكي نزوره ونلقي عليه شعرنا في مدحه والثناء عليه، ولم نعرف الغرض من هذه الزيارة إلا أننا سعدنا بالفكرة، ونهضنا للمهمة التي كلفنا بها، واتفقنا فيما بيننا أن تكون قصائدنا من بحر واحد هو الكامل، وأن يكون الروي واحدًا هو الدال المكسور المردفة بالألف – وهذا بالطبع حتى تسمح بالكلمة (العقاد) – وألاّ يُطلِع أحدُنا الآخرَ على القصيدة إلا يوم إلقائها أمام العقاد نفسه.

وبعد أن انتهينا من قصائدنا أبلغنا أستاذنا السيد أحمد صقر، فحدد لنا يوم الجمعة إذ كانت ندوة العقاد تبدأ في الحادية عشرة من صباح يوم الجمعة كل أسبوع، وحدد لنا المكان الذي ننتظره فيه في ميدان روكسي بمصر الجديدة، وذهبنا إلى المكان المحدد، وانتظرْنا أستاذنا وقتًا طويلاً، فقررنا الذهاب إلى بيت العقاد بدونه، وذهبنا، وكانت القاعة غاصة بكثير من زملائنا الذين تسرب إليهم خبر هذه الزيارة، وهناك وجوه طبعًا لمشاهير من رجال الثقافة والأدب والفن، وكان العقاد حين دخلنا هائجًا غاضبًا، يتكلم بكلام ثائر، وعرفنا من خلال حديثه الغاضب أن بعض الحاضرين أثاره بسؤال عن الشعر الحرّ، فكان مما يقول إن القافية ضرورية للشعر، لأن الشعر فن له قيوده، وكل فن له قيوده، ولا يكون الفن فنًّا إلا إذا حقق هذه القيود، وإليك ديوانًا من دواوين الشعر الصيني، انظر في آخر الأسطر وأنت لا تعرف الصينية، فسوف تجد أن الحرف الأخير من كل بيت – وهو حرف الْقافية – يتكرر في كل بيت، أي إن الشعر الصيني يلتزم بقاعدة الشعر والقافية فيه استجابة لهذا الالتزام. وكان هذا الكلام جديدًا عليّ تمامًا، ولما سكت عن العقاد الغضب عم القاعة سكون شامل مهيب، وكان هناك شاب يتحرك بين الجالسين ويشير لحامل العصير أن يوزع عليهم، وعرفت بعد هذا أنه عامر العقاد ابن أخي الأستاذ العقاد، فانتهزت فرصة مروره بجانبي، وقلت له إنّ معي قصيدة في مدح العقاد وأريد أن ألقيها عليه، فقال لي مرحبًا: إن الأستاذ لا يهدأ إلا بالشعر، وقَدَّمني لجمهور الحاضرين، ووقفت متشجعًا بما قدمني به، وبدأت أنشده قصيدتي، وكانت هناك مقدمة، بعدها أقول:

يا سيدي هذي تحية مبتدٍ * متعثِّر في ساحة الإنشاد
حار اليراع براحه متهيبا * وتعللت شفتاه: جف مدادي
فهناك قال القلب خذني ريشة * واكتب بها من لوعة الأكباد
ساح الملام بما سأملي ضيّقٌ * لا سيما في ساحة العقاد

وعندما ألقيت البيت الأخير رجّ تصفيق الحاضرين – وأغلبهم كما قلت من زملائنا بالمعهد – أرجاء القاعة، فازداد تماسكي وقويت شجاعتي ومضيت:

لكن ترى ماذا أقول ومدحه * شدو الصوادح واستمار النادي؟
أأقول نبع ترتوي في غبطة * منه العقول كنهر نيل الوادي
أأقول شمس للمعارف أشرقت * أأقولها والشمس دون مرادِي
فالشمس تشرق ثم تغرب وهو من * إشراقه أبدًا سنًا متهادِ

وقد قوطعت بالتصفيق أكثر من مرة، ولما أنهيت إلقائي هبّ العقاد واقفًا فرأيته عملاقًا شامخًا، ومدّ يده إلى مصافحًا وقال لي: هات القصيدة، فأعطيته إياها، ولم يكن عندي نسخة أخرى منها، وما بقي منها بقى في ذاكرتي. بعد هذا قدم أحمد درويش نفسه قائلاً: وهذا مبتدئ آخر، وألقى قصيدته، وقام حامد فألقى قصيدته. وحضر أستاذنا بعد أن فرغنا من إلقاء قصائدنا، وعرفنا بعد أنه تأخر لصلاة الجمعة، وبعد أن انتهت الندوة استبقانا الأستاذ العقاد مع السيد صقر، وسألنا: هل أنتم طلاب في دار العلوم؟ فقلنا له: إننا مازلنا في الرابعة الثانوية بالمعهد الديني، فنصحنا بدخول دار العلوم وظل يتكلم عن دار العلوم ودورها في الحياة الثقافية وأن الحركة إليها ذهابًا وجيئة أشبه بخط النمل، مما جعلنا نعقد العزم على الالتحاق بدار العلوم. وقال لنا عن السيد صقر: إن أستاذكم هذا رجل مجهول القدر في هذا البلد!

خرجنا من بيت العقاد قرب العصر ونحن نكاد نطير من النشوة والسرور، فقال أستاذنا: سنذهب الآن لزيارة شخصية أخرى مهمة لا تقل عن العقاد أهمية، وسألنا: من؟ فقال: الأستاذ محمود شاكر. ولم نكن نعرف عنه حتى ذلك اليوم شيئًا، وذهبنا معه طائعين. وفي بيت الأستاذ شاكر وجدنا جمعًا أقل عددًا ولكنهم – فيما بدا من سمتهم – من الصفوة، ومن أسمائهم عرفنا أن بعضهم من البلاد العربية فكان من سوريا راتب النفاخ، وإحسان النص، ومن الأردن ناصر الدين الأسد، ومن السودان عبد الله الطيب، ومن مصر عدد أولهم الشاعر محمود حسن إسماعيل. والمضحك في هذا اليوم أن أستاذنا السيد صقر طلب منا بعد أن ذهبنا إلى بيت الأستاذ شاكر أن نخلو إلى أنفسنا في “الفرندة” ونكتب تحية بالشعر للأستاذ محمود شاكر. واستجبنا وحاولنا، وكتب كل منا أبياتًا في غاية الغثاثة والرداءة. وكان هذا حدثًا ظللنا نضحك له ونخجل منه زمنًا طويلاً. عندما أذن لصلاة المغرب هبّ جميع الحاضرين للصلاة، وأمَّهم صاحب البيت الأستاذ محمود شاكر وبعد الصلاة استنشده الحاضرون قصيدته الفريدة (القوس العذراء) وبدأ في الإنشاد، وتلبسه روح مختلف أثناء الإنشاد، وبعد قليل فك رباط عنقه، واستمر في الإنشاد وبدأ يتصبب عرقًا مع أن الوقت كان شتاء وبعد أن انتهى من إنشاده قال: (إن الشعر العربي ينبغي ألا ينشد إلاّ في زي عربي، لأن هذا الزي لا يناسبه).

عندما استمع إلينا أستاذنا فتحي عبد المنعم قال: لابد أن نعقد لكم ندوة بالمعهد لكي يسمعكم زملاؤكم، وطلب من شيخ المعهد أن يوافق على عقد هذه الندوة ووافق شيخ المعهد على أن تكون يوم الخميس بعد انتهاء اليوم الدراسي. وتحدد اليوم، وأعلن عنه، وعن القاعة التي ستكون فيها الندوة، ولما جاء الوقت المحدد لم يكن في القاعة معنا نحن الثلاثة سوى فتحي عبد المنعم. وانتظرنا بعض الوقت ولم يحضر أحد، ولست أنسى حزن فتحي عبد المنعم يومها وأسفه الشديد من أجل ما آلت إليه أمور الطلاب وأمور إدارة المعهد التي تعسفت في تحديد هذا الموعد، مع أننا كنا نضحك ساخرين.

اكتشفنا أنه لم يكن بالمعهد غيرنا يكتب الشعر عندما دعا شيخ المعهد – وكان اسمه الشيخ محمد سباق – كل من يكتب الشعر من الطلاب للالتقاء به في مكتبه في موعد حدده لذلك. في الموعد المضروب لم نجد أحدًا سوانا نحن الثلاثة في مكتب شيخ المعهد، وألقى إلينا بالمهمة المطلوبة وهي أن يكتب كل منا قصيدة عن (الميثاق) الذي أصدره المؤتمر الوطني في عهد جمال عبد الناصر، وسوف يقام احتفال كبير بهذه المناسبة ويوزع فيه أيضًا جوائز المتفوقين دراسيًا – وكنت منهم طوال سنى الدراسية بالمعهد – وسوف نختار قصيدة واحدة فقط للإلقاء في هذا الحفل، عندما خرجنا من مكتب شيخ المعهد بادرنا أحمد بأن عنده قصيدة جاهزة في الميثاق – وكان عضوًا بالمؤتمر الوطني – وقال حامد: إنه ليس لديه الرغبة في المشاركة في هذا الحفل. وليلة الحفل سألني زملائي الذين كنت أسكن معهم عن قصيدتي التي سأقدمها لشيخ المعهد غدًا، فقلت لهم إن هناك قصيدة واحدة هي التي ستلقى، وأنا لم أكتب شيئًا حتى الآن فاستحثوني على الكتابة، وقالوا: إن شيخ المعهد سوف يدعكم جميعًا تنشدون قصائدكم إذا قدمتموها له. فأخذت – وكان ذلك في التاسعة مساء – في كتابة قصيدة أذكر منها في المطلع :

من وحي عبد الناصر العملاق * صيغت إليك مبادئ الميثاق
وحيٌ تنزَّل كي يشيد دعامة * للمجد، والتاريخ، والأخلاق

وأنهيتها ببيتين أحيي فيهما شيخ المعهد قائلاً:

وإليك يا شيخي الكريم تحية * فلكم نرى من عطفكم ونلاقي
ولقد سبقت إلى المحامد كلها * حتى دعيت محمد بن سباق

وفي الصباح أعطيت القصيدة لشيخ المعهد، وقبل بدء الحفل بدقائق وجدت شيخ المعهد بنفسه ينادي على من اسمه محمد حماسة فدخلت مكتبه وكان حوله مجموعة من المشايخ، فقال لي: إن قصيدتك هي التي اختيرت وسوف تلقيها في الحفل بشرط واحد هو ألا تلقي البيتين الأخيرين منها، فقال أحد الحاضرين وهو الشيخ عبد الوهاب فايد – وكان معروفًا بمعارضته لكثير مما في النظام الأزهري – يا مولانا، وهل اختيرت هذه القصيدة للإلقاء إلا من أجل البيتين الأخيرين؟ وأعجبت بجرأة الرجل وصراحته. وفي هذا اليوم تكشفت لي أمور كان مغطَّى على بصري فيها لم يزدها توالي الأيام إلا تأكيدًا. في صبيحة اليوم التالي أدار الدكتور عبد الفتاح سالم – وهو أستاذنا في التفسير – الحصة على قصيدتي، وكانت أول مرة أسمع فيها نقدًا على عمل لي، وكان لطيفًا متسامحًا، يقيم نقده على المعطيات اللغوية، وقد وقف طويلاً أمام (فلكم نرى من عطفكم ونلاقي)، وكان يضحك كثيرًا وهو يتهمني بالمكر في حذف مفعول الفعل (نلاقي) ويقول: حددت ما يُرى وهو العطف ، وحذفت ما “نلاقي”، إن الفعل “نلاقي” لا يستعمل إلا فيما يدل على معاناة ومشقة، فلعل التقدير (ونلاقي صنوف العنت) أو (أنواع الهوان) ويغرق في الضحك أكثر، وهو يقول : أية محامد سبق إليها شيخ المعهد، لقد أغرتك مادة (الحمد) ومادة (السبق) فجعلت منه سبَّاقا إلى المحامد كلها، إنه سباق لغوي، وحمد لغوي، وهو كذب، ولكن أعذب الشعر أكذبه. ويسترسل في شرح معان لم تخطر لي على بال بطبيعة الحال، ولكن كان لكثير مما قال أثر كبير في نفسي المتطلعة، وكان ما قاله أحسن ما حظيت به في معهد القاهرة الديني الذي ظفرت فيه بصحبة رفيقي درب الشعر حامد طاهر وأحمد درويش، وكانت مناقشتنا المستمرة إحدى وسائلنا في تطوير أدائنا الشعري.

التحق ثلاثتنا بكلية دار العلوم التي كانت أملا يراودنا وحلما يداعب أخيلتنا لما نسمعه من نشاطها الدائب وحركتها المستمرة في الشعر ونقده، والتي أوصانا بها الأستاذ العقاد ونصحنا بالالتحاق بها، وكان ذلك على غير رغبة والدي الذي نذرني للأزهر، وكان يريدني أن أتخرج فيه، واتهمني بأني التحقت بها من أجل وجود الاختلاط فيها، وبعد لأي ما قبل وجودي بها. وقضينا أيامنا الأولى بها في تعرفها واختبار ما فيها، وبعد مرحلة لم تطل من الاضطراب والقلق تكيفنا مع الوضع الجديد، والنظام الجديد، يحدونا الأمل، ويدفعنا التطلع أننا سوف نشق الصفوف فيها إلى المقدمة بما نملك من موهبة وبما يملأ قلوبنا من الشعر، ولكنه الأمل المشوب بالرهبة من الأسماء الكبيرة التي كنا نتسامع بها في الشعر والنقد، وبعد التغلب على الإحساس الطارئ بالشعور بالغربة لأننا في أرض غير الأرض التي ألفناها تسع سنوات كاملة من سني التعلم شجعنا زملاؤنا الأكبر سنا الذين كانوا أزهريين مثلنا، وكانوا زملاء لأخي حامد الأكبر سنا وهو أحمد طاهر، وكان مجرد كلام واحد منهم لنا كلاما عابرا يثبت القلب والأقدام في هذه الأرض الجديدة.
بعد شهر تقريبا من بدء الدراسة رأينا إعلانا على السبورة في فناء الكلية – المبني القديم بالطبع نضر الله أيامه بكل خير – يدعو الطلاب الذين يكتبون الشعر للقاء مع مقرر جماعة الشعر، وكان علي البطل – رحمه الله – وهو طالب وقتها في الفرقة الثالثة. والتقينا ووجدت عددا كبيرا من الطلاب يملأون مدرج (أ)، يا لله ! كل هؤلاء يقولون الشعر؟ أين معهد القاهرة من هذا الثراء الخصيب في المواهب؟ وشرح لنا مقرر جماعة الشعر النظام المعمول به، وعرفنا أن هناك لقاء أسبوعيا في يوم الخميس، يختار فيه عدد من القصائد يلقيها أصحابها ويعلق عليها أحد الأساتذة ومنهم المعيدون. وقدمت قصيدة جديدة كتبتها أيامها من وحي ما شاهدته من بعض زميلاتي في الكلية أقول فيها:

لا تقيمي على الجمال ستارا * من مساحيق تصرخ استهتارا
وثقي بالذي برته يد الله فقد أبدعت لنا الأزهارا
أنت يا أختُ درّةٌ والدراري * غاص من أجلها الأنام البحارا

وقدم أحمد درويش قصيدة طويلة – وهي القصيدة التي أسمعنيها أول ما عرفته – ولم يقدمنا مقرر الجماعة في لقاء الخميس الأول، وعندما ذهبت أسأله قال لي: إن قصيدتك مقبولة لأن (عايدة) أعجبت بها (عايدة زميلته التي تزوجها فيما بعد)، فسألته عن قصيدة أحمد ألم تعجب بها عايدة فنظر إلىَّ شزرًا قائلاً: إنها ليست قصيدة، فقلت: إنها أكثر من ستين بيتا، فقال قولة لم أنسها قط: (نحن لا نقيس الشعر بالشبر).

كان المعلق على قصائد الندوة هذه المرة هو الدكتور عبد الله درويش – رحمه الله – وقال عن قصيدتي كلاما مال فيه إلى التشجيع لا المؤاخذة مما أغراني بتقديم قصيدة أخرى كانت من بحر الخفيف وكنت سعيدا بها لأنها أول مرة أكتب فيها من هذا البحر الذي يعز على الشادين، وكانت بعنوان (حطم العود) أقول فيها:

حطم العود يا صديقي فإني * فوق صخر الأسى تحطم عودي
بعثر اللحن يا رفيقي فإني * غير مصغ لضاحك التغريد
ما مراحي وبهجتي ومزاحي * وصداحي وفرحتي ونشيدي
في حياة تعكّر الصفو قسرًا * وبكأس انتشاءة المرء تودي
بينما المرء في ربيع شباب * باسم الثغر للغد المنشود
يتثني بعوده الغض مزهوًّا بثوب الشباب كالعنقود
كالربيع الضحوك تهتز فيه * خطرات الصبا بصبح جديدِ
إذ يسوق الردى إليه سهامًا * ثم يودى بغصنه الأملودِ

كان الذي يعلق هذه المرة هو محمد فتوح أحمد، وكان معيدا لامعا واثقا بنفسه، وكان شاعرًا من شعراء الكلية المعدودين، وكنا نعجب بشعرة ونرى فيه نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه القصيدة الحديثة، وقد هاجم في هذه الندوة قصيدتي هجومًا قاسيا، ورمى شاعرها بالفشل، وراح يعدد الأسباب التي ساعدت الشاعر على هذا الفشل، وكلما قال شيئًا تضاءلت في مقعدي ووددت لو اختفيت من هذا المكان، وأذكر أنني خرجت بعدها فلم أذهب إلى البيت، وظللت هائما على وجهي في طرقات القاهرة، لا أدري بالوقت ولا أشعر بالمكان، وكان عقلي يعيد النظر في أمر الشعر كله، كنت أقول لنفسي: هذا الشعر الذي كنت تعتز به وتحبه، وتشعر به بالتميز على زملائك وأندادك الذين لا يقولون الشعر هو اليوم سبب لشعورك الأليم بالخزي والهوان، وقرت نفسي يومها على هجر الشعر وتركه، فقد كنت أعدّه سببا لظهوري بين زملائي وتفوقي عليهم، الآن هو سبب لشعوري بالتضاؤل بينهم. ومضيت بعد أن انتهيت إلى هذا القرار لبيتي وارتاحت نفسي لما قررت وكنت أرى وقتها أنصاف الشعراء في الكلية لا يحققون راحة بالتفوق ولا راحة باليأس، واليأس إحدى الراحتين، وقلت: لنفسي إما أن أحقق بالشعر مكانة عليا وإما أن أصمت، فليس كل المتفوقين شعراء ولتكن الدراسة مجالا للتفوق. وظل حديث النفس هذا يلازمني حتى كان الأسبوع التالي، وقد دعانا زميل من أريتريا اسمه عبد القادر – وكنا نسميه عبد القادر الأريتري – إلى نادٍ خاص بالجالية الأريترية، وذهبنا نحن الثلاثة حامد وأحمد وأنا، ولم يكن هناك شعراء مدعوون لهذه الأمسية سوانا، وكان الذي يعلق على الندوة هو محمد فتوح أيضًا، وقدمت قصيدة في هذه الليلة بعنوان (البغيّ) وكانت صياغتها مختلفة عما ألفته من قبل، وعندما وجدت أن المعلق هو محمد فتوح وطنت النفس لتلقى مزيد من الاتهام بالفشل، ولكن محمد فتوح في هذه الليلة أهمل الإشارة إلى قصيدتي تمامًا سلبا وإيجابًا، وأسمع كلاًّ من أحمد وحامد عن قصيدتهما ما أسمعنيه عن قصيدتي في ندوة دار العلوم وكان لاذعًا قاسيا، أو بدا لنا الأمر كذلك. والحق أن بعض كلامه كان مبادئ نقدية عرفنا بعد قليل أنها مستقاة من محمد غنيمي هلال في كتابه مدخل إلى النقد الأدبي الحديث الذي كان يدرسه لنا في هذا العام، وغير عنوانه في هذا العام نفسه إلى (النقد الأدبي الحديث). وقد خرجنا نحن الثلاثة هذه الليلة نمشي في شوارع القاهرة ونضحك مما حدث، ويبدو أن تساندنا معا، لم يصبنا بما أصبت به في الأسبوع السابق. وكان حامد أكثرنا ثباتا وثقة فقال: إن فتوح يعلم مقدار موهبتنا لأنه شاعر قبل أن يكون ناقدًا، وهو يخشى من وجود قوة شعرية في مثل قوتنا في الكلية، فقد تنال هذه القوة الجديدة من مكانته المستقرة، ولذلك يريد أن يخيفنا ويفزعنا، ومن ثم ينبغي ألا نحقق له ما يريد ولكن الأمر لم يكن على ما صوّر حامد، وإن كان موقفه أعاد إلينا الثبات. كان فتوح أحمد يمارس أدواته النقدية التي تعلمها، وكان يقسو من أجل الرغبة في دفعنا إلى تطوير أدواتنا الشعرية وتصحيح مفهومنا عن الشعر، وسرعان ما ضمنا إليه وسمح لنا بالجلوس معه وزيارته في بيته ولكننا ظللنا ننطوي على شيء من الرهبة له والخوف منه. الآن بعد مرور أربعين سنة عندما أتذكر معه هذه المواقف يضحك ضحكة فيها شيء من الزهو، وشيء من الأسى أَنْ لم يُفْهم موقفه حق الفهم.

في السنة الأولى بدار العلوم حدث موقفان آخران لهما بالشعر صلة، أمّا أولهما فقد أعلنت إدارة رعاية الشباب للذين يكتبون الشعر أن يتقدموا بقصائدهم لاختيار من يشاركون منهم في أسبوع شباب الجامعات، وحدد موضوع القصيدة أن يكون قوميا، وتقدمت بقصيدة زاعقة مطلعها:

قف يازمان من السنا المتهادي * حيّ انطلاق الفجر في بغداد
قف حيّ فيها ثورة عربية * محقت ظلام الظلم والإفساد

واختير في هذا العام سعد مصلوح وحامد طاهر، كانت قصيدة سعد جميلة بعنوان (الصفصافة) مطلعها:

                      حنّ من رقة وأنّ صبابهْ * وأذاب العذاب فيّ شبابهْ

وكانت قصيدة حامد رباعية رائعة بعنوان (الراعي) ومطلعها:

من ربوة خضراء نائمة بأحضان الجبلْ
ساق النسيم الصبّ أغنية كرنّات القُبَلْ

إلى هنا والأمر مألوف ليس فيه شيء غير عادي، فقد سعدت لحامد كما لو كانت قصيدتي هي التي اختيرت، وكنا وقتها نحسب أنفسنا نفسا واحدة إذا حقق أحدنا شيئا فرح له الآخران، وإن كنت طويت النفس على أن أحسّن وأجوّد في شعري لقابل. وقد ألغي أسبوع شباب الجامعات بعد هذا العام. غير المألوف دعوة الدكتور عبد الحكيم بلبع – عليه رحمة الله – لي عن طريق رعاية الشباب، وكانت أول مرة ألتقي به، وكنت أضرب أخماسا في أسداس، وطار من قلبي طائر الأمن، فلما التقيت به حياني بابتسامته البشوش ووجهه الطلق وكلماته المشجعة، وناداني باسمي كأنه يعرفني من زمن بعيد، وقال لي: أرجو ألا تكون غاضبا لعدم اختيار قصيدتك، قصيدتك جيدة، وكان عدم اختيارها عن غير قصد، وطيب خاطري بكلام جميل، وكان هذا اللقاء وهذا الكلام الجميل عندي أجمل مما لو اختيرت قصيدتي. وكان كلامه معي درسًا لي لم أنسه قط كلما تعرضت بعد ذلك لموقف الحكم. ولم ينزع محبته من قلبي شيء حتى وفاته في سنة 1977م رحمه الله.

وأما الموقف الآخر فقد علق إعلان في الكلية أنها ستقيم حفل تأبين في ذكرى الأربعين للأستاذ العقاد الذي توفي يوم 12/3/1964، وسوف يلقي فيه الأستاذ عمر الدسوقي بحثا عنه، وسيكون هناك مجال لإلقاء قصيدة في رثائه، وعلى الراغبين في المشاركة أن يقدموا قصائدهم للأستاذ فتوح أحمد، وتقدمت ضمن من تقدموا، ولم يتقدم حامد مع أنه كتب قصيدة في رثاء العقاد، وكان رأيه أن التقديم في هذه المسابقة المحدودة عبث لأنه مادام فتوح موجودا لن يشارك أحد آخر. كان مطلع قصيدتي:

هل قضى نحبه وهل صار ذكرى * وطواه الردى فقصّر عمرا
كيف يندك شامخ متأبّ * عصرته الأحداث والدهر عصرا
ودهته فما ألان قناة * لعتي أراد للعود كسرا

وفيها:   

إن يكن ضمه بأسوان قبْر * صار يزهى على المقابر فخرا
فهو بين العقول ينداح فكرًا * وهو بين القلوب ينبض ذكرى
يا رُبى الخلد كبري حين يأتي * وافتحي من حنانك الغض صدرا
وامنحيه تحية منك طرسًا * وأعدي له يراعًا وحبرا
علّه من علاك يزجي بيانًا * كاشفًا عن غوامض الحق سترا
كاشفًا ساحرا به كل أفعى * ظنت الموت يبطل اليوم سحرا
فاستفاقت من بعده تتباهى * وتلوّت لتنفث السمّ كفرا
ولنا الله بعد يتم يراعٍ * صال حرا واليوم يغمد حرا
وله جنة الخلود جزاء * ولتعادلْه جنة الخلد أجرا

وصدق حدس حامد، فلم يلق أحد شعرا سوى محمد فتوح، وقد أصابني هذا بشيء من الإحباط.

كان من المعيدين الذين أحاطونا بكثير من الرعاية والعطف والتشجيع علي عشري زايد – عليه رحمة الله – فقد كان لا يقصر اهتمامه على الندوة الأسبوعية التي تقام كل يوم خميس، بل كان إذا أسمعه أحدنا قصيدة استكتبه إياها وأخذ نسخة منها، ويعود بعد أيام قليلة وقد كتب عنها أكثر من ملزمة ويعيدها مع ما كتب، ولو جمع ما كتبه عن قصائد الطلاب لكان أكثر من ثلاثة مجلدات ضخام. يفعل هذا مبعوثا إليه بروح المودة والتعاطف، والحث والأخذ بأيدي الصغار في غير مَنٍّ ولا أذى.

وكان منهم سعد مصلوح وهو شاعر ذو شعر رصين، وكانت سِنُّه – وقد تخرج في الصيف الذي دخلنا فيه الكلية – مقاربة لسِنّنا، بل أنا أكبره بعامين، وكان هذا مبعث إعجابي الشديد. لقد خلطنا بنفسه، وآخانا مؤاخاة حميمة، وكان ينشدنا من مختاراته أكثر مما ينشدنا من شعره، وقد شكلت رؤيته الناضجة وفهمه للشعر جزءًا كبيرًا من رؤيتنا.

وكان منهم محمد عيد الذي كان يتمتع بجدية صارمة، وكانت نظرته إلى أستاذ الجامعة أقرب إلى التقديس منها إلى شيء آخر، يراه صاحب رسالة من الرسالات الكبرى، وكان يأخذ نفسه قبل غيره بهذه الرؤية، ويحاول أن يحمل الآخرين على ما يرى، ويأخذهم به، ويريدهم عليه. كان يشارك في الندوات ويزن كلامه بميزان دقيق، ولكنه إذا أعجب بإحدى القصائد ظل يردد الحديث عنها زمنا طويلا يبادر به صاحبها وإن لم تدع إلى ذلك مناسبة.
وكان منهم محمد أبو الأنوار الذي كان يشارك قليلا في التعليق على الندوات، ولكن اتجاهه كان أقرب إلى المعايير القديمة، على عكس محمد فتوح الذي ينشد الأفكار الجديدة.
وكانت أحكامه – أي محمد أبو الأنوار – قاطعة حاسمة. وكان يقف عند اللفظة الواحدة ينشد أناقتها ودقتها من وجهة نظرة، وتمثلت لنا ملاحظاته على هيئته واضحة محددة أنيقة حسنة المظهر.
وكان منهم حسن الشافعي الذي بدا لنا في فكره وأسلوبه وطريقة تعامله أكبر من معيد، لم تكن ملاحظاته جزئية، وكان ذوقه نافذا، وكان أشبه بالقائد المحنك الرحيم، وكان يدرس لنا أحد كتب الدكتور محمود قاسم عميد الكلية وقتها، وكان يهتم بأحسن ما لدى كل منا ويغضى عن هناته، وإذا أشار إلى شيء من هذه الهنات فمع ابتسامة حانية تجعل تقبل الملاحظة سائغا. لم يكن يعلق على الندوات بل كان تعليقه دائمًا في جلسات خاصة في الكلية أو في بيته الذي كان يساكنه فيه علي عشري.

وقد قربنا هؤلاء جميعا منهم كأننا معيدون بينهم، وبعضهم كان يزورني في بيتي. وقد كانت آراؤهم ومناقشاتهم ذات أثر كبير في تصحيح مفهومنا وتعديل أفكارنا وتشكيل رؤانا، على اختلاف بينهم في التأثير، وعلى تفاوت في القرب والبعد. بدت لنا الكلية كلها حركة نشطة من الثقافة والفكر، وكان أظهر نشاطها هو الشعر والنظر فيه، فكأن الكلية كلها تتنفس شعرًا.
في الصيف لم أذهب إلى قريتي ككل صيف سابق، فقد حصلت على عمل في القاهرة، وهو العمل نفسه الذي حصل عليه أحمد درويش، ولذلك اتصل لقاؤنا، وتكرر كثيرا. في أحد لقاءاتنا قال حامد: يجب أن تكون لنا مقررية جماعة الشعر، واختارني لهذه المهمة، واعتذرت، وقبلها أحمد، وبتدبير ذكيّ من حامد نفذ ما أراد في أول العام الدراسي، فأصبح التخطيط لجماعة الشعر ونشاطها بأيدينا، وقد زاد من احترام زملائنا وحفاوة المعيدين وبعض أساتذتنا بنا أننا كنا من الأوائل. وقد انضم إلينا عدد من الأصدقاء الذين كانوا يكتبون الشعر مثل عبد الرحمن سالم والسعيد شوارب.

وقام صديقنا حسن البنداري بتأليف (جماعة القصة) التي توازت مع جماعة الشعر، وكانت تعقد ندوتها عقب دروس يوم الاثنين مع كل أسبوع وتعاون معه عدد من الزملاء كُتَّاب القصة القصيرة مثل رفعت الفرنواني – عليه رحمة الله – ومحمود عوض عبد العال، وعبد الفتاح منصور الذي كان قصاصا واعدًا ولا أدري كيف تصرفت به الأيام، وأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة علي أبو المكارم ثم عبد الحكيم حسان. وأصبحت الكلية شعلة من النشاط الثقافي حيث الندوات والمهرجانات التي كثر عددها في العام وكان هناك من قبل مهرجان واحد كل عام، وتردد على الكلية الشعراء الكبار وشعراء جيل الوسط، وكان أبرز الشعراء الذين ينشدون في المهرجان نزار قباني وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد الفيتوري وفاروق شوشة وإسماعيل الصيفي وأنس داود ومحمد فتوح. وألقى الشعراء من الطلاب أشعارهم أمام هؤلاء. وكان عميد الكلية الدكتور محمود قاسم علي رأس لفيف من الأساتذة في مقدمة الحضور في كل مهرجان، وكان العميد دائمًا يلقي كلمة ترحيب بضيوف الكلية من الشعراء. وكنت أرى الحركة إلى الكلية ومنها في هذه المناسبات كما وصفها العقاد أشبه بخط النمل وكان مسرح الكلية يغص بالرواد. وكان شعراء الكلية يستعدون للمهرجان استعدادا خاصا بأن يقدم كل منهم قصيدة جديدة لم ينشدها من قبل في الندوة أو غيرها، وكان أحمد درويش كثيرا ما يتألق في تقديم الشعراء الكبار والصغار، وكنا نحن نختار القصائد التي تستحق أن تلقى في المهرجان.
في هذه الفترة كانت مصر كلها في ذروة تألقها الثقافي، فكانت هناك مجلة للشعر، وأخرى للقصة، وثالثة للمسرح، ورابعة للسينما، وخامسة للكتاب، وسابعة لتلخيص أمهات الكتب العربية والعالمية تحت اسم (تراث الإنسان)، بالإضافة إلى مجلة (المجلة) و(الرسالة) و(الثقافة) و(عالم الفكر) ، ومع هذا كله إصدارات أسبوعية ونصف شهرية وشهرية لأنواع من الكتب كأعلام العرب والمسرح العالمي والروايات والمكتبة الثقافية وروائع المسرح، ويواكب هذا أيضًا إصدار جديد لأمهات التراث العربي كالأغاني للأصفهاني وعيون الأخبار لابن قتيبة وصبح الأعشى للقلقشندي والنجوم الزاهرة لابن تغرى بردي، ونهاية الأرب للنويري، وكانت أثمان هذه الكتب والمطبوعات في متناول الجميع. كان المد القومي قبل هزيمة يونيه والشعور الوطني في ذروته، وكان هناك تجاوب في كل مناشط الحياة مع هذا الشعور الطاغي.

في هذه المرحلة كتبت قصيدة الشعر الحر، وعرفت قصائدي طريقها إلى مجلة الشعر التي كان يرأس تحريرها الدكتور عبد القادر القط الذي لم يكن الوسيط بيني وبينه إلاّ ساعي البريد، وكنت أوقّع القصيدة باسمي فقط دون أية بيانات أخرى. كان كل منا مع الصلة الشديدة يسلك سبيله وحده في نشر قصائده، ولا يتحدث مع الآخريْن في شيء من هذا، ويسعد بمفاجأة زميليه بنشر قصيدة له، وكذلك كنا نفعل في التقديم لجوائز الشعر، وكنا نفاجأ بوجودنا معا في تسلم الجوائز التي كنا نتبادل فيها المواقع الأولى، وقد لفت هذا نظر يوسف السباعي مرة حين صعدنا أكثر من مرة لتسلم الجوائز فقال: (إنكم سوف تقضون على كل الجوائز) .

كان نجاحي بامتياز في سنوات الدراسة يعزز موقفي الشعري بشكل ما، وكنا معا مرموقين متألقين، وكل منا يتألق في جانب، وكان حامد أكثرنا تألقا في الشعر، وأغزر إنتاجا وتنوعا في قصائده. 
في هذا العام عاد إلى الكلية بعض المبعوثين الذين حصلوا على الدكتوراه من لندن وكامبردج وهم السعيد بدوي ومحمود الربيعي وحمدي السكوت وكمال جعفر (يرحمه الله) وأحمد غراب (يرحمه الله) وعلى حبيبة، وقد درسوا لنا جميعا إلا السعيد بدوي الذي أشعر أن من نعمة الله علىّ أنْ سمح لي فيما بعد بأن أكون قريبا منه.

وقد قلت في إهدائه كتابا لي:

ليس من نال في الخلائق جاهًا * أو حوى المال كيسه بالسعيد
السعيد السعيد من خصه اللهُ بفضل فنال ودّ (السعيد).

وقد أحسسنا نحن – الطلاب – بأثر هؤلاء في الكلية على تفاوت بالطبع بينهم، وكان عميد الكلية يميل إلى الشباب ويثق بهم ويحثهم على الالتصاق بالطلاب في المناشط الثقافية. وكنا نسمع عن محمود الربيعي، وقد قرأنا له قصيدة في مجلة دار العلوم في سنوات الخمسينيات مطلعها:

أنا عائد من قريتي * في الريف أحكي قصتي

وأعجبنا بها، وكان يحدثنا عنه محمد فتوح، ويقول: سوف يجيء إليكم شاعر ناقد من طراز فريد. وقد كتب فتوح قصيدة جميلة في استقبال هؤلاء العائدين بعنوان (أمّي الثانية). سرعان ما جذبنا محمود الربيعي بسلوكه الراقي، وأدائه المتميز، وثقته الكبيرة بالنفس، وتطلعه إلى مساعدة الشباب والأخذ بأيديهم. وكما اصطفانا السيد صقر في معهد القاهرة الديني اصطفانا محمود الربيعي في دار العلوم، ووجدنا فيه أستاذا مستنيرا وأخا أكبر وصديقا حميما، وكان أكثر ما لفتنا فيه أول الأمر تعليقه النقدي الذي يصف فيه القصيدة ويحاول أن يفسّر دون أن يصدر حكما بالجودة أو بالرداءة ولم يمض وقت طويل حتى كنا من محبيه وحوارييه، وقد أفدنا إفادة كبيرة من رؤيته النقدية، وبعض نظراته في الحياة والناس، وترى هذا مصدِّقا في مقدمته الضافية التي كتبها لمجموعتنا المشتركة الثانية (نافذة في جدار الصمت).

في هذه المرحلة دعينا نحن الثلاثة لأمسية شعرية لا يشاركنا فيها شاعر آخر في المركز العام للشبان المسلمين، ذلك المكان الذي كنا نتردد عليه في المرحلة الثانوية وتتطلع نفوسنا إلى الإنشاد على منصته، وكان هذا أمنية يتمناها لنا المحبون، وكان في هذه الأمسية أستاذ من دار العلوم يقوم بالتعليق النقدي على القصائد التي سنلقيها. ولما ألقينا قصائدنا تقدم هو للتعليق، وكنا نجلس خلفه، وسمعته يقول كلامًا لا علاقة له بقصيدتي، فهمست لحامد – أو ظننت أنني أهمس – قائلا: (إنه لا يفهم القصيدة). وكانت المفاجأة التي أصابتني بكثير من الخجل أنه سمع عبارتي، وعلق عليها بصوت مسموع للجمهور مما زادني خجلا. والغريب أنه لم يغفر لي هذه العبارة حتى يومنا هذا، وكانت أحد الأسباب في الكثير مما عانيته منه بعد ذلك.

في آخر سنة لنا بالكلية، وعقب أحد المهرجانات الشعرية، انفرد بنا صلاح عبد الصبور – وكان وقتها يرأس الهيئة العامة للكتاب – وطلب منا أن يعد كل منا عددا من القصائد ليطبعها لنا في ديوان واحد، وسعدنا بهذا الطلب وأسرعنا في إعداد ما طلب منا، وذهبنا إلى مكتبه في الهيئة العامة للكتاب واستقبلنا استقبالا ودودًا، وسلمناه قصائدنا مجموعة معا، وسمينا هذه المجموعة (ثلاثة ألحان مصرية)، وقد تلكأتْ بتأثير الروتين المصري ثلاث سنوات، فلم تظهر إلا سنة 1970، وتناول كل منا عن هذه المجموعة أربعين جنيها، اقتطعت الضرائب منها خمسة جنيهات، ولكني فوجئت في السنة التالية بخطاب من الضرائب يطالبني بضعف ما أخذته عن هذه المجموعة تحت عنوان أن مهنتي (مؤلف أشعار)!

راقت لنا فكرة إخراج شعرنا في ديوان مشترك، واتفقنا على أن نلتزم بهذا النهج، ولكننا لم ننفذه إلا مرة واحدة بعد ذلك سنة 1975 عندما أخرجنا الديوان المشترك الثاني (نافذة في جدار الصمت) الذي كتب مقدمته الدكتور محمود الربيعي، وكان أحمد وحامد قد سافرا مبعوثين إلى فرنسا، وأشرفت أنا على تنفيذه. فاجأنا حامد سنة 1984 بإخراج شعره في (ديوان حامد طاهر) وكان يتضمن ما نشر من قبل في (ثلاثة ألحان مصرية) و(نافذة في جدار الصمت) فكان هذا إعلانًا بالتخلي عن الاتفاق السابق، تحمسنا بعد ذلك في سنة 2001 في جلسة غداء جمعتنا لتكرار التجربة، ولكن الفكرة تبخرت بانتهاء الجلسة نفسها وكأنها طائف عابر من الحنين إلى الماضي.

كانت سنوات الدراسة بالكلية هي فترة التوهج الشعري، والأمل، والتطلع إلى المستقبل، والتفاؤل، والفوران العاطفي، وكان الجو العام كله مستجيبا لهذا التوهج على المستوى الوطني والقومي حتى فاجأتنا هزيمة يونيه المنكرة بما جرّته من إحباط وشعور بالخزي والعار.

وكان يوم 5 يونيه من أيام أداء امتحان الليسانس، فتعطلت الامتحانات، وكأن الحياة نفسها توحي بالتوقف، وكان حامد يقضي معي معظم الوقت، ورأينا أنفسنا معا نبدأ قصيدة تجمع بين السخرية والحسرة، كان حامد يبدأ بشطر وأكمل الشطر الثاني أو العكس.

تخرجنا في هذا العام بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، وعينا معيدين كل في قسم مختلف عن الآخر، واخترت قسم النحو والصرف والعروض، وظننت أن الشعر سوف يبتعد عني، ولكنه ظل مني قريبًا، يخايل أحيانا دون أن يتمكن مني، ويلح أحيانا فلا يفصم عني إلا بقصيدة. وكنت وما زلت أسعد بالقصيدة أكتبها، وأحس أني بكتابتها قد أسهمت في صياغة العالم من جديد، وأعتقد أن هذا الشعور الجميل هو المكافأة التي يتلقاها الشاعر على كتابة القصيدة، وقد كنا ثلاثتنا نحسّ أن الدنيا تجدد نفسها عندما يكتب أحدنا قصيدة، وإذا قال أحدنا قصيدة كان الآخران جمهوره وناقديه، ومن هنا قويت العلاقة وحدث ما يشبه الاستغناء عن الآخرين، وأصبح (الثلاثي) مقصورا على نفسه أو يكاد.

وظل الشعر بيننا زمنا طويلاً صلة قائمة مقام الوالد على حد تعبير أبي تمام:

أو يختلفْ نسبٌ يؤلف بينَنا * أدبٌ أقمناه مقام الوالد

نجتمع حوله، ونناقش أمره، ونتكاتب به أحيانا. عندما عاد حامد من بعثته في فرنسا سنة 1981 كنت في الكويت فكتبت له قصيدة موجهة إلى ابنته (دينا) مطلعها:

ردّي علينا إذا حييت يا دينا * إنا اتخذنا هواكم في الهوى دينا

وفيها:

سلي أباك فقد كانت أعنتنا * في كفه وهو أنّي شاء حادينا
كنا ثلاثة أتراب يراودنا * للنور شوقٌ ومنه كان هادينا
فكان من أنسه رَوْحٌ يراوحنا * وكان من رُوحه شعرٌ يغادينا
وكان إمّا افترقنا نبض مهجتنا * وكان إمّا التقينا قلب نادينا
وكم سعدنا به والدهر يجمعنا * وكم به كُبتتْ غيظا أعادينا
وكم تعبنا ولم يظفر بنا تعبٌ * ما غيرته عن الحسنى عوادينا

ويكتب أحمد درويش من فرنسا أنه اشترى سيارة (تاونس) فأهنئه بها قائلا:

أبا هشام وإني * محضتك الودّ محْضا
منّي إليك تهان * رأيتها لك فرضا
بتَوْنسٍ في سراها * تكاد تترك الارضا
وتمتطي الريح سبحًا * إن شئت طولاً وعرضا
ولا تشكَّى اهتزازًا * في السير عُلْوًا وخفضا 
وأنت فيها مليكٌ * تشير فالأمر يُقْضى
من حولك الزُّهْر تلهو * والبعض يتبع بعضا
(رشا) تثير (هشامًا) * لعلّ (غادة) ترضى
فيُستثار (هشامُ) * ويقلب الأمر فوضى
فإن نظرت إليه * رنا حياء وأغضى
فدمتَ فيهم وداموا * في نعمة ليس تُنْضى
في ظل بيتٍ دفيء * يرقرق الحبّ غضا
أبا هشام وإن الحياة تسرع ركضا
مرني وأنت مطاع * بما تشاء وترضى
هذي حقوق وإنّ الحقوق عندىَ تقضى
أقدم الروح زلفى * والمال إن شئت قرضا

ومن اللطيف أن أحمد لم يعلق من القصيدة كلها إلا على الشطر الأخير منها (والمال – إن شئت – قرضا) معترضا على أن يكون المال (قرضا)!

وظل الشعر وسيلتنا طيلة فترة الشباب لنقد بعض الأوضاع التي لا تعجبنا، وقد كتبنا كثيرًا من القصائد الساخرة نشترك في كتابتها، وتتقافز بيننا الأبيات والأشطر، وقد احتفظ حامد بمعظم هذا الشعر، وكان حامد يتميز بقدرته الساحرة في تصوير من يصورهم في شكل كاريكاتوري ساخر، وبقدرته على اقتناص أهم الصفات المميزة للشخص المصور، ولذلك لم يكن غريبًا عليه أن ينفرد بعدد من قصائد هذا النوع، وأن يؤلف فيما بعد ديوانًا كاملاً بعنوان (ديوان النباحي) وهو ديوان شعر متخيل ينتقد فيه كثيرًا من الأوضاع والصفات والأشخاص. وهذا نموذج من هذا اللون من الشعر الساخر، فقد كتبنا معًا قصيدة عن (الرّصد) – وهو أحد أهم أعمال الامتحانات – عارضنا بها قصيدة طرفة بن العبد التي مطلعها:

أصحوت اليوم أم شاقتك هر * ومن الحب جنون مستعر

نقول فيها إن لم تخني الذاكرة:

أرصدت اليوم أم شاقتك هر * ومن الرصد جنون مستعر
عَصْلجَ المفتاح في الباب فلم * يتحرك والتوى ثم انحشر
فأتى النجار في كوكبةٍ * من شواكيش وأشياء أُخَرْ
ومضى يبذل فيه جهده * ثم لما لم يلن معْه انكسر
فدخلنا كأسود جوعت * ثم ألفتْ فجأة سرب بقر
كل كف تهبش الكشف فإن * شدّ زيد نحوه صاح عمرْ
وطلبنا ألف ليمون فلم * يعصر الليمون والعمر انعصَرْ
وسعى كل مريد نمرة * سعى ثعبان إلى البيض حذر
فإذا أبصرها ناجحة * أطلق الساقين للريح وفر
وإذا ما ظهرت راسبة * قطب الوجه حزينا واكفهر
وإذا لم يتمكن منهما * لعن الإخوان سرا وانتظر
يا رفاق الرَّصد من عهد الأولى * رصدوا النجم وعاشوا في الحفر
لا تلوموا عاشقا في رصده * إنما الرصد قضاء وقدرْ


ولقد صور حامد هذه المرحلة في قصيدة من أجمل قصائد شعره بعث بها إلىّ من فرنسا وهي في ديوانه بعنوان (ثلاثة أصدقاء وقمر) يقول في مطلعها:

كنا ثلاثة أصدقاء 
في الصبح يجمعنا لقاء
ومع المساءْ
قمر وأغنية شريده

وقد سعدت بالقصيدة جدا، ولكن لا أدري لماذا انقبضت نفسي من بدئها بـ (كنّا) الدالة على المضيّ، وتمنيت لو أنه قال: (إنّا). غير أن التعبير الشعري الصادق أدلّ على سوانح النفس من سواه.
وقد ظلت هذه العلاقة قوية ما كان هناك شعر يقال، وما كانت هناك رغبة في صديق يسمع، فهذه علاقة قامت من أول أمرها على الشعر وظلت عليه، ولم تطور نفسها في غيره، فلما باعدت بينا الإعارات، وجرى المال في أيدينا، واختلفت الأهواء وخفت صوت الشعر؛ تقطعت الأسباب، ولم يبق إلا ذماء واهن يربطها بذكريات عهد الشباب الخصيب.

كنت أتمنى أن يحب أولادي الشعر وأن يكتبوه، حاوله ولدايَ حاتم وأشرف. حاوله حاتم وهو طفل وكتب أشياء أقَمْتها له. وحاوله أشرف شابا، ولكنه لم يشركني في كثير مما كتب، ولكن محاولاته افتقدت أهم مقومات الشعر وهو الوزن. وحاولته ابنتاي مي ونورا، وكانت نورا أقرب إلى تحقيق شيء في هذا الطريق لولا أنها شغلت بدراسة الطب.

قالت لي مي يومًا – شأن كل بنت – أنت أعظم رجل، وأنت أكثر الرجال وجاهة، فقلت لها أبياتًا ما تزال تحتفظ بها في اعتزاز، وهي:

تقول ميّ وكادتْ * تطير عُجْبَا وتيها
أبي أراك عظيما * وفي الرجال وجيها
فقلت والحق عندي * خليقة أبديها
يا ميّ كل فتاةٍ * مفتونة بأبيها

دفعني حب الشعر من حيث لا أدري إلى إخضاع تخصصي العلمي لبعض مطالبه، فأنجزت رسالتي الجامعية الأولى عن الضرورة الشعرية، وكتبت فصلاً من رسالتي الجامعية الثانية عنه، وعقدت فصلاً عن بناء الجملة في الشعر القديم في أول كتبي بعد ذلك، وكتبت كتابًا عن الجملة في الشعر العربي، وكتابًا عن اللغة وبناء الشعر، وكتابًا عن الإبداع الموازي: التحليل النصي للشعر، وكتابًا عن الظواهر النحوية في الشعر الحر، وعددًا من الأبحاث المختلفة تتناول بعض الظواهر فيه. وكان الاشتغال بالشعر يشبع شيئًا من الشوق القديم الكامن إلى كتابته، ولكن كتابة الشعر شيء والكتابة عن الشعر شيء آخر.

وتراودني بين الحين والآخر تلك الرغبة الملحة في كتابة قصيدة، كثيرًا ما لا تكتمل، وقليلا ما تكتمل. ويظل التعلق بأهداب الشعر سرابًا يشدني وأصدّقه حتى إذا جئته لم أجده شيئًا.
أراني اليوم وقد أكملت الثالثة والستين من العمر أشعر بالخجل إذا عدّني أحد من الشعراء، وأشعر بالحزن والأسى إذا لم أعد منهم. وسواء عددت من الشعراء أو لم أعد منهم فإنني على صلة بالشعر، أقرؤه، وأحاوله، وأستمتع بقراءته، وأستمتع بمحاولته، وكلما تقدمت بي السن أجدني مشدودًا إلى الشعر القديم أتأمله وأتطعم بناءه، وأجد أننا لم نعطه حقه، ولم ندرك كل أسراره، كما أجدني إذا حاولت شيئًا منه مبتعدًا عن الشعر الحر، مائلاً إلى الكلام الموزون المقفى، وأجدني أعدل عن الأبحر الشائعة المطروقة إلى الأبحر غير الشائعة، وأجدني أحب القافية الواضحة الجلية غير الذلول وحبذا لو كان بها لزوم ما لا يلزم حتى تكون أكثر وضوحًا وجلاء، وأحس الآن أن العبقرية في الفن تكمن في الإبداع من خلال القواعد لا تحطيمها، ومن هنا انصرفت نفسي عما يسمى (قصيدة النثر) وأرى أن التسمية ساعدت على الانصراف عنها، فأصحابها يريدوننا على أن نتجرع شيئًا لا صلة له بما ألفنا أنه شعر على أنه شعر. ويذكرني هذا بموقف في فيلم (طاقية الإخفاء) إذ يُخرج الممثل القدير توفيق الدقن علبة كبريت ويسأل الممثل عبد المنعم إبراهيم عما في العلبة، ويرغمه على أن يقول إن الذي فيها فيل. هذا حال أصحاب قصيدة النثر معنا، يريدون أن يرغمونا على أن هذا شعر. إن جزءا من تذوق أي عمل فني معرفة قالبه، ومطابقة هذا القالب ولو جزئيًا لما هو مصطلح عليه في تاريخه. ولو نجح هؤلاء في تسمية فنهم تسمية مستقلة على أنه ضرب جديد من ضروب الفن القولي لربما كان ذلك أدعى لقبوله وتذوقه.
كنت – وأنا شاب صغير – أسمع القصيدة فيعتريني عند جزء منها ما يشبه القشعريرة تسري في جسمي كله، فأدرك من فوري منها أن هذه قصيدة جيدة، وكنت أسمع القصيدة فتحملني بعض صورها إلى وادٍ غريب، وتفجر بعض جملها دلالات جديدة في نفسي، فأدرك أن هذه قصيدة جيدة. وكنت أسمع القصيدة فلا يعتريني شيء من هذا ولا ذاك، فأتهم نفسي بأني لم أحسن استقبالها، وأعود إليها، فإذا بي أحسّ فحسب أنها قعقعة لغوية وطنين أوزان فتنصرف عنها نفسي وأنا أرثي لصاحبها، وكثيرًا ما أرثي لأولئك الذين يتمسحون بالشعر ولا يحققون منه شيئًا، ويتأكد لديَّ يومًا بعد يوم أن (الشعر صعب وطويل سلّمه).

Related posts

Leave a Comment